الجمهورية – علي داود
السيوف والسكاكين والملاعق والشوَك المطعّمة بالمعادن والأصداف، التي صنعها حرفيُّو جزين ووضّبوها بتناسق، تُبهر أنظار الزائرين من اللبنانيين والسياح العرب والأجانب، لتدلّ بوضوح على مدى عراقة هذه الصناعة الحرفية، التي عرفتها «عروس الشلّال» منذ عام 1770، والتي احترفها أبناؤها من جيل إلى جيل، حتى باتت رمزاً من رموز المدينة.
بيد أن بريق هذه الحرفة العريقة، بات مصحوباً بعبء متزايد على الحرفيين بسبب قلّة تصريف الإنتاج، في ظلّ إهمال الدولة لها. وباتت زوايا المحال التجارية في سوق جزين تكدّس الغبار فوق المنتجات الحرفية، مما يؤشّر للزائر إلى الأزمة التي تمرّ بها هذه الحرفة واقترابها من الإنهيار. ولعلّ ما يزيد من الأزمة، إنما هو ابتعاد جيل الشباب تدريجاً عن تعلّم الحرفة للحفاظ على استمراريتها وعراقتها، في حين لم يبقَ حتى اليوم سوى 13 حرفياً.
جزين وحكاية الحرفة
تشتهر مدينة جزين بموقعها الجغرافي المميز، إذ ترتفع عن سطح البحر نحو 1200 متر، مما جعلها واحدة من أهم المصايف في لبنان، ويشجع على السياحة فيها، شلاّلها المتدفّق والمقاهي المنتشرة فوق الوادي السحيق، فضلاً عن أسواقها التي تضمّ مختلف الصناعات الحرفية والهدايا ذات الطابع القروي، ولا سيما منها السيوف والسكاكين والخناجر وأدوات الطعام الفضية ذات المقبض العاجي، التي تزدان بها واجهات البيوت والموائد.
وتُعتبر هذه الحرفة، مورد رزق الكثيرين من أهالي جزين الذين عرفوها منذ العام 1770، حين كانت المدينة منقسمة إلى جزأين، يفصل بينهما نهر صغير، ويوصلهما طريق ضيق، حيث كان الأجداد يرعون الماشية، وما إن يستريحوا عند النهر، حتى تحمل إليهم الطيور بأشكالها الرائعة أفكاراً جديدة لحفر الخشب وجعلها مقابض للخناجر والسيوف، ثم ليطوّروا حرفتهم في ما بعد، إلى استخدام قرون الماعز والأغنام بدلاً من الخشب.
الإزدهار والأفول
وقد حافظ أبناء المدينة على هذه الحرفة حتى يومنا الحالي، وكثيراً ما تنافس حرفيّوها في ابتكار الأشكال والرسوم والزخرفة، إلى أن بلغت منذ عقود عصرها الذهبي كواحدة من أبرز أشكال الفن الحرفي اللبناني الأصيل، إلى درجة أن الرؤساء اللبنانيين حرصوا على حمل منتجات جزين كرمز وطني في زياراتهم الرسمية، يُهدونها للرؤساء والزعماء الذين يقابلونهم. وقيل أن الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول كان متيّماً بهذا النوع من الهدايا، وقد أهداه الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب مجموعة منها.
وباتت الهدايا الجزينية تُعتبر من أفخم الهدايا التي تُقدّم للشخصيات والرؤساء، وتُضاهي أهميتها هدايا كريستوفل في باريس، وغاليري كريستيز في لندن، ويختلف سعرها بين مجموعة وأخرى، ولكنها تناسب جميع الطبقات، وعادة ما يختار الأثرياء المجموعة المؤلفة من أكثر من 100 قطعة مصنوعة من العاج، أو مطعّمة بالذهب الخالص، أو الأحجار الكريمة.
ولا تقتصر هذه الهدايا على السكاكين والشُوَك، والسيوف التي يحمل أشهرها إسم "ذو الفقار" بل تتخطاها إلى أدوات الزينة النسائية وأدوات المكتب، من قطّاعة الورق وعلاّقة المفاتيح وعلب السجائر وغيرها.
ومنذ سنوات، بدأ نجم هذه الحرفة بالأفول، بسبب عدم تصريف الإنتاج، الذي انعكس سلباً على إقبال جيل الشباب على احترافها، فضلاً عن تقصير الدولة في تقديم ما يلزم للحفاظ عليها كتراث وطني، والأزمات الإقتصادية والمعيشية الخانقة التي يعاني منها اللبنانيون، حيث بات شراء منتوجاتها مقتصراً على السياح وبعض الأثرياء، مما دفع عدداً من حرفيّيها إلى تأسيس التعاونية الحرفية للصناعات الجزينية منذ سبع سنوات، في محاولة لإعادة رونقها وتأمين الدعم المعنوي والمادي، وافتتاح معهد لتعليمها.
يوسف عون
ويقول أمين سر التعاونية الحرفية يوسف جرجس عون (79 عاماً) الذي احترف هذه المهنة منذ 50 عاماً،" الحرفة تشكل مورد رزق لثلاث عشرة عائلة جزينية، إحدى عشرة منها انتسبت إلى التعاونية"، لافتاً إلى الجهود التي بذلها الحرفيون لتطوير جودتها، بمسعى من الإيطاليين الذين وفّروا المواد الأوّلية ذات الجودة العالية، وساهموا في تأسيس التعاونية الحرفية لتكون مرجعاً أساسياً للحرفيين كافة. ولا يخفِ عون حسرته على أيام زمان، حين كانت الصناعة الجزينية في عصرها الذهبي، قائلاً: "كانت "مزراب دَهب"، أما اليوم فهي تعاني الركود والكساد، وتحتاج إلى كل أنواع الدعم كي تحافظ على بقائها، مشيراً إلى أن ثمة خطوات تُتّبع حفاظاً على هذه المهنة بفعل مساعدة الإيطاليين على تطوير الإنتاج، من ناحيتي تقديم المواد الأولية وتنظيم دورات تدريبية. ويختم عون بوجوب أن تبادر الدولة إلى تفعيل القطاع السياحي في جزين، حيث إن نسبة السياح الأجانب قليلة، وفي فصل الصيف فقط، وإن وزارة السياحة قادرة على القيام بدور أكبر في تنشيط السياحة في "عروس الشلال" وتصريف الأعمال الحرفية.
وختم عون، إننا نطالب الجهات المعنية بمساعدة التعاونية الحرفية، وإيلاء عملية التسويق الأهمية الكبرى، وذلك من خلال فتح مراكز بيع في بيروت والخارج للأعمال الحرفية، المصنّعة في جزين.