حسن شقراني - الاخبار
اليوم يجب ألّا يكون لدى لبنان أيّ عقدة نقص في تصنيعه للنبيذ؛ فالإقبال العالمي على هذا المنتج يزداد على نحو ملحوظ، والتصدير ينمو باطراد إلى إسواق جديدة، ويتجه لبنان ليكون من أهمّ 10 بلدان صناعة النبيذ في العالم، رغم أن كرومه تنتشر على مساحة محدودة، لكن بخبرة واسعة. التميّز هنا هو على الصعيد النوعي، لا الكميّ. «إذا افترضنا أنّ معدّل إنتاج الخمارة الواحدة في لبنان هو مليون زجاجة، يصل في الأرجنتين مثلاً إلى 20 مليون زجاجة». يقول المدير العام لشركة "اكسير"هادي كحالة. لكن في المقابل «من يتذوق النبيذ اللبناني للمرة الأولى يطلبه مرّة ثانية".
يتحدّث هذا الخبير عن صناعة لبنانية لم تصل إلى مرحلة البلوغ من ناحية الاستهلاك المحلي، لكنها تكسب صيتاً عالمياً مميزاً يدفع الفاعلين فيها إلى ولوج أسواق جديدة.
فقد دخلت هذه الشركة أخيراً إلى السوق اليابانية؛ إذ رُصد فيها طلبٌ ملحوظ على النبيذ اللبناني؛ ليس طلباً ضخماً، بل كافٍ ليُظهر مستوى شغف هذا الشعب الشرقي بالمشروب المرفّه عموماً.
وليس غريباً أن تكون سوق النبيذ، في ثالث أكبر اقتصاد في العالم، قوية لهذه الدرجة. فقد أظهرت دراسة الجدوى التي أجرتها "اكسير" أنّ الطلب على النبيذ في اليابان كبير جداً، رغم أنّ هذا البلد ليس منتجاً، إلّا أنّ الاستهلاك فيه ضخم. لنأخذ على سبيل المثال مؤشر عدد خبراء النبيذ في المطاعم، وهم الأشخاص المشبّعون بثقافة النبيذ يقدمون النصائح لاختيار المشروب المناسب للزبائن في المطاعم الفخمة: في فرنسا يبلغ عددهم الإجمالي 3 آلاف خبير، ولكن في اليابان يصل العدد إلى 18 ألف خبير، أي 6 أضعاف العدد الفرنسي. وهذه المهنة ليست مجرّد هواية تُمتّن مع الرغبة والحب لهذا المجال، فهي تحتاج إلى دراسة أكاديمية لثلاث سنوات.
ولا يُلغي فارق عدد السكان بين البلد الأوروبي الشهير بصناعة هذا المشروب وتذوقه وبين زميله الصناعي إلى الشرق، صحّة المقارنة؛ فعدد السكان في فرنسا هو نصفه في اليابان.
واستفادت الشركة من كون رجل الأعمال اللبناني الشهير، المدير التنفيذي لشركة Nissan كارلوس غصن، مساهماً فيها لكي تنطلق انطلاقة قويّة. لكن إذا نظرنا إلى واقع هذه الصناعة وأفقها إجمالاً، يبدو أنّ هناك خطة واضحة للتوسع في أسواق جديدة ليس بالضرورة أن يكون فيها أشخاص من عيار كارلوس غصن لمنح الولوج زخماً خاصاً.
«تبدو خطوة الدخول إلى السوق اليابانية منطقية جداً في هذه المرحلة، وقد أثبتت طلائعها أنها ستكون ناجحة جداً»، يتابع هادي كحالة، «غير أنّنا ندرس في جمعية منتجي النبيذ اللبناني خيارات التوسع إلى أكثر من بلد، والآن الأضواء مسلّطة على سوق المملكة المتّحدة (إنكلترا)».
ورغم أنّ هناك منافسة لا بأس بها في هذا المجال بين المصنعين اللبنانيين، غير أنّ العمل في إطار الجمعية يجري وفقاً لمبدأ «في الاتحاد قوّة» على ما يؤكّده الفاعلون في الجمعية. فالاستعداد للدخول إلى السوق البريطانية تسبقه حملة إعلانية قوية وحركات هجومية على أكثر من صعيد. فخلال الفترة الأخيرة دعت الجمعية صحافيين ونقاداً ذائعي الصيت Wine critics في إنكلترا لتذوق إنتاج لبنان والكتابة عنه. كذلك تشارك تسع خمّارات لبنانية في أحد أهم معارض النبيذ أوروبياً، هو معرض لندن للنبيذ London wine fairبر منصة كبيرة؛ والأهم «تحت راية واحدة».
وقد أظهرت صناعة النبيذ في لبنان حيوية مميزة مكّنتها خلال العقد الماضي من تعزيز حضورها في الخارج؛ فالآن هناك 25 مصدّراً للنبيذ اللبناني، وتلقى الأنواع المميزة من النبيذ اللبناني التقدير العالمي المستحقّ وجوائز النوعية.
غير أنّ الإنتاج اللبناني لا يزال دون عتبة 10 ملايين زجاجة سنوياً، وهو رقم ضعيف مقارنة ببلدان أخرى، منها عربية مثل تونس. ويعود هذا التواضع الكمي في الإنتاج إلى نقص المساحات المخصصة للزراعة، كما يؤكّد كحالة. لكن ضعف المساحات الزراعية تُعوّض عنه عوامل تفاضلية كثيرة أخرى مثل الخبرة والابتكار.
«المعركة التجارية التي يخوضها النبيذ اللبناني عالمياً هي على صعيد النوعية»، يُشدّد كحالة ويضرب مثالاً عن خليط عصير العنب المخمر الذي تصنعه شركته التي يساهم فيها وأشرف مباشرة على ولادة أوّل كأس من خمارتها في عام 2008: رغبنا في ألّا يكون نبيذنا من منطقة واحدة، وهكذا عمدنا إلى توليف الكرمة من 5 مناطق أساسية لزراعتها في لبنان. والمعروف أنّ المناخ يختلف على نحو شاسع من منطقة إلى أخرى. هذا الأمر أدّى إلى حصولنا على طابع مختلف جداً من عصير العنب للحصول على النبيذ.
لكن إضافة إلى أهمية نشر النبيذ اللبناني عالمياً والمنافسة النوعية مع عمالقة أوروبيين وأميركيين لاتينيين مثلاً، هناك أهمية خاصة للسوق المحلية التي لا تزال غير مشبّعة. فمعدّل استهلاك الفرد للنبيذ يبلغ ليترين في العام فقط، فيما يصل المعدّل إلى 13 ليتراً في البلدان المنتجة للنبيذ. وفي فرنسا يفوق المعدّل 55 ليتراً.
وحتّى إذا سلّمنا جدلاً بأن نصف اللبنانيين لا يشربون النبيذ لدواع مختلفة، لا يتجاوز معدّل استهلاك هذا المشروب في لبنان 4 ليترات، وهذا يعني أنّ السوق المحلية لا تزال تكتنف مقوّمات كبيرة.
خلال السنوات الماضية لُحظ توسّع في السوق المحلية، يوضح كحالة، غير أنّ أن هذا التوسع تكبحه سنوات الضعف مثلما حصل في عام 2011. ففي العام الماضي تراجع تدفق السياح والمغتربين، وكان الأداء متواضعاً.
وهكذا تبدو صناعة النبيذ اللبناني في موقع قوي حالياً مع آفاق توسع محلّي وعالمي. وربما فتح هذا الأمر المجال، أمام ارتفاع عدد المصنّعين، لتوليفات أكثر تقانة على صعيد النوعية ولغزو أسواق جديدة.