النهار - بيار عطاالله
عندما يصل البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الى مطرانية صيدا المارونية، ويطل منها على الرعايا المارونية المنتشرة في ساحل اقليم الخروب ومنه صعوداً في اتجاه منطقة جزين، سيكون على تماس حقيقي مع احدى اكثر المناطق اللبنانية المهددة بفقدان العيش المشترك نتيجة تراجع الحضور المسيحي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وسيرى بطريرك الموارنة بأم العين حجم الهجمة التي يتعرض لها المسيحيون في تلك المناطق والقرى والارياف، والذين لا يجدون احداً الى جانبهم في معاناتهم وحسراتهم سوى بعض الرهبان وفاعلي الخير.
في ساحل الشوف الجنوبي سيجد الراعي ان الجية لم تعد هي نفسها، فما عفت عنه آلة التدمير والقتل خلال الحرب تكفلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ عام 1990 باستكماله عن طريق التضييق على المهجرين المسيحيين و "تقطير" دفعات اعادة الترميم والبناء او ما اصطلح على تسميته التعويضات، والتي كانت حكراً على المحظيين واصحاب الشفعة والدعم. اما السفارات الاجنبية فتولت تسهيل هجرة ابناء هذه البلدات الى ديار الله الواسعة، وخصوصاً اوستراليا والولايات المتحدة الاميركية وكندا، في حين تكفل سماسرة الاراضي والمتعهدون وغالبيتهم من الموارنة المسيحيين ببيع الاراضي من كل راغب فيها، مما ادى الى نشوء مخيم فلسطيني حديث بين بلدتي الرميلة وجدرا في منطقة وادي الزينة، وتحديداً في منطقة داود العلي، وهي عينها التي قدم لها النائب وليد جنبلاط قطعة ارض لبناء مدافن للاجئين الفلسطينيين عليها.
وما يصح على الجية ينطبق ايضاً على الرميلة التي رغم اللافتة الجميلة التي زرعتها البلدية عند مدخلها وتشير اليها باسم "الرميلة عروس ساحل الشوف" وسط الزهور والورود، تبدو شوارعها خالية من السكان رغم ان البلدة لا تبعد عن بيروت اكثر من 15 دقيقة وتملك احد أجمل الشواطئ الرملية في لبنان لم يطلها التشوه العمراني والاعتداءات على الاملاك البحرية العامة اسوة بالمناطق الاخرى. وصعودا من الرميلة وجارتها علمان عند ضفاف نهر الاولي ببساتينها الرائعة، ومنها في اتجاه مزرعة الضهر والمطلة وغيرها من القرى والبلدات، لن يجد البطريرك سوى عنوان واحد للحضور المسيحي: "الفقر والحرمان والتهميش والاهمال المزري". فلا الوزارات والادارات العامة معنية بما يجري في هذه القرى والبلدات، ولا النواب ولا الاحزاب ولا الجمعيات، ولولا همة الاهالي وتعلقهم المجنون بأرضهم لما بقي مسيحي واحد في تلك الانحاء بهمة السياسيين والسماسرة.
في مدينة صيدا سيكتشف البطريرك ان ثمة الكثير من المواطنين من ابناء جلدته لا يزالون مقيمين فيها على خلاف الاعتقاد الشائع، ومن لا يقيم من المسيحيين في عاصمة الجنوب فهو يعمل فيها في الادارات العامة والمؤسسات الخاصة، اذ يفضل الكثير من ابناء القرى والبلدات المسيحية في شرق صيدا والزهراني العثور على عمل في صيدا القريبة على الذهاب الى بيروت وتكبد عناء البحث عن منزل وما الى ذلك. لكن هذا الوضع لا يعني ان احوال المسيحيين في المنطقة بألف خير، فالحروب الاهلية والتهجير الكبير الذي أصاب المنطقة فعل فعله في انتزاع الكثير من المسيحيين من تلك المنطقة وتحويل وجهها الديموغرافي الى اوجه عدة على قياس القوى الطائفية الاخرى النافذة في تلك الانحاء.
على خط صيدا – جزين، يمكن القول ان بلدة القياعة المسيحية قد اضمحلت امام حجم هجمة الديموغرافيا الزاحفة من صيدا، ويصح الامر ايضاً على بلدة عبرا الجديدة التي انحسر الانتشار المسيحي فيها الى مستويات قليلة جداً وانسحب المسيحيون منها في اتجاه بلدة عبرا التي تعمر بسكانها واهاليها وتعيش على هاجس اجتياحها بهمة السماسرة الناشطين في بيع الاراضي. أما في مجدليون والصالحية صعوداً في اتجاه جزين فحدث ولا حرج عن الانحسار الكبير للحضور المسيحي في تلك المناطق التي تحولت ضواحي لمدينة صيدا الكبرى نتيجة المجمعات السكنية الضخمة التي قامت فيها لغير المسيحيين. وعلى خط حارة صيدا صعوداً في اتجاه عين الدلب والقرية ومنها الى درب السيم والمية ومية ومغدوشة، تبدو الامور افضل حالاً نسبياً، والفضل في ذلك لمدينة مغدوشة التي تشكل العمود الفقري للمسيحيين في ذلك المحور، والتي تزدهر بسكانها المتعلقين بأرضهم.
لكن الطامة الكبرى التي ستفاجئ البطريرك الماروني هي في منطقة جزين التي خسرت الكثير من اراضيها امام هجمة السماسرة والاموال الضخمة التي تتدفق لشراء اراضيها. ورغم الاديار المارونية الكثيرة المنتشرة في انحاء جزين وأحدها في بكاسين كان مقراً للبطريركية المارونية، الا ان عمليات البيع لا تتوقف نتيجة الترويج لفقد عامل الثقة لدى الاهالي ولغياب اي رؤية انمائية سواء لدى المسؤولين الحكوميين أو لدى القطاع الخاص.
في الجنوب، يستطيع البطريرك الراعي الكلام بكل صراحة على المؤامرة على الوجود المسيحي والعيش المشترك.