حسناء سعادة - السفير
تتعدّد تسمياته، فالبعض يقول إنه وادي قاديشا، والبعض الآخر يطلق عليه وادي قنوبين، ليشير آخرون إلى أنه وادي القديسين. لكن برغم كل التسميات، يبقى هو الوادي الذي سكنه بطاركة وقديسون، وحفروا صخوره لتتحول إلى مناسك ومغاور، لا تزال صامدة حتى اليوم في وجه كل العوامل الطبيعية. وهي تتكشّف يوماً بعد يوم، بفضل جهود أبناء المنطقة والجمعيات التي تعنى بالحفاظ على الوادي.
يعود أصل التسمية إلى اللغة السريانية، ويعني «دير الرهبان المبتدئين» أو «الجماعة» أو «السكان». ويقول خادم رعية الوادي الأب حبيب صعب: «إن الوادي ينقسم إلى مقلبين، الأول هو وادي قاديشا. ويمتد حتى دير مار انطونيوس قزحيا، نزولاً حتى الفراديس. والثاني، هو وادي قنوبين، ويمتد من مدافن البطاركة الموارنة، صعوداً حتى الكرسي البطريركي الجديد في الديمان»، لافتاً إلى أنه «تكثر في وادي قنوبين الكهوف والمغاور، وكذلك المزارات ومحابس الرهبان والكنائس والأديرة".
وحظي الوادي باهتمام عالمي لجهة إدراجه على لائحة التراث العالمي، ما جعل الأنظار تتجه صوبه بقوة، أحياناً للإضاءة عليه، وأحياناً أخرى لتعداد مخالفات تجري في محيطه وتهدده، بشطبه عن لائحة الأماكن التراثية. إلا أن الأنظار اتجهت اليوم نحو الكمّ الهائل من الاكتشافات التي طاولت مغاور، كانت مغمورة في الوادي، ما ضاعف عدد مغاوره الأثرية والتراثية والتاريخية إلى أكثر من خمسين مغارة، ومحبسة، ومكان تنسك، أضيفت إلى لائحة المغاور المكتشفة في محيط الوادي، والتي كان أبرزها مغارة «عاصي الحدث»، التي عثر فيها على جثث محفوظة طبيعياً، إضافة إلى بقايا فخاريات وعملات قديمة، تعود إلى القرن الثالث عشر، والتي كان الوصول إليها صعباً جداً، إلا أنه تمّ.
وفي محيط الوادي، كل شيء يجذب الزائر، فالمكان فريد ومميز، تشعر وأنت في أحضانه بالخشوع، وتمجد عظمة الخالق. وجذب ذلك إليه العديد من السيّاح، كما جذب اهتمام الخبراء والناشطين البيئيين، الذين تعاونوا مع «رابطة قنوبين للرسالة والتراث» و«الجمعية اللبنانية للأبحاث الجوفية»، وتمكنوا من اكتشاف سلسلة مغاور ومحابس طبيعية سكن فيها من قصد الوادي هرباً من اضطهاد، أو تنسكاً. وقد بلغ عدد تلك الاكتشافات سبعاً ما بين مغاور ومحابس، وهي:
ـ «المحبسة»، ويتجاوز ارتفاع بابها العشرة أمتار، وعرضه 15 متراً. وهي تتصل بمجموعة من الكهوف الصغيرة المغمورة في الوادي.
ـ «مغارة حتيفة صعب»، وهي كناية عن تجويف صخري تبلغ فتحته عشرين متراً، بعلو يقارب عشرة أمتار، ويمكن الدخول إليها من تلك الفتحة لتصل إلى مساحة داخلية تقارب مئة متر مربع، مقسمة إلى أربعة تعرجات صخرية، هي بمثابة غرف يقارب ارتفاعها المنظور عشرين متراً. وقد وجدت فيها بقايا ترسبات مائية متحجرة، وتراب رملي وكلسي في أرضها، وعلى جدرانها آثار تفحم أسود وبقع صمغية نباتية.
ـ «مدفن مار يوحنا»، وهو يقع في شق صخري لا تتجاوز فتحته المتر وبعمق يقارب ثلاثة أمتار في باطن الشير الصخري، الممتد من وسط الديمان باتجاه وادي قنوبين، مساحة المدفن تبلغ حوالى ثلاثة أمتار عمقاً، بارتفاع يقارب المترين، وبفتحة تقارب المتر الواحد عرضاً، وهو كائن في تجويف صخري متصل بمغارة معروفة باسم مغارة الجماجم، حسب المعمرين من أبناء الديمان ووادي قنوبين.
ـ «محبسة مار اسطفان التحتا»، وهي محبسة من الخطر الكبير تسلقها صعب إلا للمختصين في تسلق المغاور، حيث تمّ نصب حبال للتسلق إلى المحبسة المعلقة، وسط شير يعلو نحو 250 متراً منتصبة خالية من أي انحدار.
ـ «مغارة الشلقة»، وهي تجويف صخري عرض فتحته يقارب عشرة أمتار، بعمق ستة أمتار، وبارتفاع ستة أمتار ايضاً، لا توجد فيها أي آثار لسكن الإنسان، أو أيّ مخلفات من أدوات حياته اليومية، وتتصل المغارة بكهف معلق في باطن الجبل.
ـ «مغارة المادنة» أو «المَأذنة» وهي معلقة في باطن امتداد صخري، ومقسمة إلى ثلاثة تعرجات، أو فتحات صخرية، تظهر فيها ترسبات مائية متحجرة على شكل أعمدة دقيقة في داخلها العميق، وعلى أشكال مختلفة في سقفها، ومجموعة نباتات تغطي سقفها وواجهتها العلوية الخارجية إلى غطاء متفحم أسود في بعض جوانب سقفها.
ـ معصرة كرم الزيتون، وهي منحوتة في صخر أبيض داخل مغارة تتسع فتحتها لنحو عشرة أمتار، بارتفاع يقارب المترين، وبعمق عشرة أمتار، وفي وسطها جرن منحوت قطره نحو المتر وعمقه متر ونصف المتر، أما في سقفها فتبدو آثار متفحمة سوداء، ما يؤكد إشعال الحطب فيها من قبل سكان تلك الناحية تاريخياً.
ويؤكد مسؤول الإعلام في «رابطة قنوبين» الزميل جورج عرب، الذي رافق المستكشفين في كل جولاتهم واكتشافاتهم على أن «بعض المغاور التي تم اكتشافها كان الوصول إليها صعباً جداً، وهو لا ينصح أياً كان بمحاولة تسلقها، «إلا إذا كان يملك الخبرة والمعدات اللازمة». ولفت إلى أن «المرحلة التالية بعد استكشاف المواقع، إجراء الأبحاث العلمية لتحديد الحقبة التاريخية التي سكن فيها الإنسان، ولدراسة الحقبة الجيولوجية التي تشكلت فيها تلك المغاور ـ المحابس، خصوصاً أن فيها ترسبات وتحجرات مائية، وبقايا حجارة كلسية، بالإضافة إلى جماجم وفخاريات وغيرها من الأدوات التي كانت تستعمل في القدم». ويؤكد عرب على أن «الرابطة والجمعية ستواصلان متابعة الجهد التطوعي المبذول لاكتشاف المزيد من معالم الوادي المقدس".